سورة التوبة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله} السقاية والعمارة مصدر أسقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه لا يحسن هنا فلابد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه. وابن الزبير. وأبي جعفر. وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} بضم السين جمع ساق {مّنَ المسجد} بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك {سِقَايَةَ} بالضم أيضًا مع الياء والتاء {وعمرة} كما في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعًا جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل: لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر عنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأيًا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وا أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ عن الضحاك قال: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى: {المهتدين أَجَعَلْتُمْ} الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون.
وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما أخرجه مسلم. وأبو داود. وابن جرير. وابن المنذر. وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملًا لله تعالى بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وا روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه.
والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له: يا عمر لو هاجرت إلى المدينة فقال له: أولست في أفضل من الهجرة وألست أسقي الحاج وأعمر البيت، وهذا ظاهر في أن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلمًا على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها، وأيد هذا القول بأنه المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل، وجعل المشتمل على ذلك استطرادًا لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر، وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم، على أنه قيل عليه: إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس شعر بالحرمان، والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد.
والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه، كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار وكونها نزلة العدم، فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم، ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانًا من نسبة المعدوم إلى الموجود، وقيل: لا مانع من اعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط، وعدم الحرمان المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه، والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح عزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه: {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول، وإذا كان المراد لا يستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي هاهنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، لكن ينبغي أن يعلم أن الأفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضيلة للمفضل عليه وهم عزل عن اعتقاد ذلك، وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة، فلابد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل.
والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، وجوز أبو البقاء أن تكون حالًا من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل: سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركًا كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم، والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام، وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لا يوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي.


{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
وقوله سبحانه: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلًا له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية والعمارة من المشركين، وقد أنشرنا إلى ماله وما عليه حسا ذكره بعض الفضلاء. وأنا أقول: إذا أريد من افعل المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول: أن يقال: حذف المفضل عليه إيذانًا بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنًا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقق حقيقة أفعل وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال: فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلًا، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى. الثاني: أن يقال: ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فإنهمق الوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة: السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به خير من أن في الإيمان والجهاد خيرًا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ، وما قيل: من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر {هُمُ الفائزون} أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم.
والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا: وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرًا فيه قطعًا تعويلًا على ظهور الأمر وإشعارًا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضًا تقوية للإنكار وتذكيرًا لأسباب الرجحان ومبادىء الأفضلية وإيذانًا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه.
ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر.
والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقًا، والقصر في قوله سبحانه: {أولئك هُمُ الفائزون} بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق إدعاء كما مر اه.
وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل.


{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)}
{يُبَشِّرهُم رَّبُّهُمْ} أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وقرأ حمزة {يُبَشّرُهُمْ} بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاثي وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة بن مصرف، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف {بِرَحْمَةٍ مّنْهُ} واسعة {وَرِضْوَانٍ} كبير {وجنات} عالية قطوفها دانية {لَّهُمْ فِيهَا} أي الجنات وقيل: الرحمة {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} لا يرتحل ولا يسافر عنهم، وهو استعارة للدائم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10